الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***
مكية. وآيها ثمان آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق فكان غائباً حاضراً، أو ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل، أو بما يسرنا لك تلقي الوحي بعدما كان يشق عليك، وقيل إنه إشارة إلى ما روي " أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صباه أو يوم الميثاق، فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيماناً وعلماً " ولعله إشارة إلى نحو ما سبق ومعنى الاستفهام إنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته ولذلك عطف عليه. {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} عبأك الثقيل. {الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الذي حمله على النقيض وهو صوت الرحل عند الانتقاض من ثقل الحمل وهو ما ثقل عليه من فرطاته قبل البعثة، أو جهله بالحكم والأحكام أو حيرته، أو تلقي الوحي أو ما كان يرى من ضلال قومه من العجز عن إرشادهم، أو من إصرارهم وتعديهم في إيذائه حين دعاهم إلى الإيمان. {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بالنبوة وغيرها، وأي رفع مثل أن قرن اسمه باسمه تعالى في كلمتي الشهادة وجعل طاعته طاعته، وصلى عليه في ملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وخاطبه بالألقاب، وإنما زاد {لَكَ} ليكون إبهاماً قبل إيضاح فيفيد المبالغة. {فَإِنَّ مَعَ العسر} كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم. {يُسْراً} كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يغمك، وتنكيره للتعظيم والمعنى بما في «إن» مع من المصاحبة المبالغة في معاقبة اليسر للعسر، واتصاله به اتصال المتقاربين. {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} تكرير للتأكيد أو استئناف وعده بأن {العسر} متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة كقولك: إن للصائم فرحة، إن للصائم فرحة أي فرحة عند الإِفطار وفرحة عند لقاء الرب. وعليه قوله عليه الصلاة والسلام " لن يغلب عسر يسرين " فإن العسر معرف فلا يتعدد سواء كان للعهد أو للجنس، واليسر منكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأول. {فَإِذَا فَرَغْتَ} من التبيلغ. {فانصب} فاتعب في العبادة شكراً لما عددنا عليك من النعم السالفة ووعدناك من النعم الآتية. وقيل إذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة، أو {فَإِذَا فَرَغْتَ} من الصلاة فانصب بالدعاء. {وإلى رَبّكَ فارغب} بالسؤال ولا تسأل غيره فإنه القادر وحده على إسعافك، وقرئ «فَرَغِّبْ» أي فرغب الناس إلى طلب ثوابه. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني ".
مختلف فيها. وآيها ثمان آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} {والتين والزيتون} خصهما من الثمار بالقسم لأن التين فاكهة طيبة لا فصل له وغذاء لطيف سريع الهضم، ودواء كثير النفع فإنه يلين الطبع ويحلل البلغم ويطهر الكليتين، ويزيل رمل المثانة ويفتح سدد الكبد والطحال، ويسمن البدن وفي الحديث " أنه يقطع البواسير وينفع من النقرس ". والزيتون فاكهة وإدام ودواء وله دهن لطيف كثير المنافع، مع أنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال، وقيل المراد بهما جبلان من الأرض المقدسة أو مسجدا دمشق وبيت المقدس، أو البلدان. {وَطُورِ سِينِينَ} يعني الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه الصلاة والسلام ربه و{سِينِينَ} و{سَيْنَاء} اسمان للموضع الذي هو فيه. {وهذا البلد الأمين} أي الآمن من أمن الرجل أمانة فهو أمين، أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله والمراد به مكة. {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} يريد به الجنس. {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} تعديل بأن خص بانتصاب القامة وحسن الصورة واستجماع خواص الكائنات ونظائر سائر الممكنات. {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} بأن جعلناه من أهل النار أو إلى أسفل سافلين وهو النار. وقيل هو أرذل العمر فيكون قوله: {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} استثناء منقطعاً. {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا ينقطع أولاً يمن به عليهم، وهو على الأولى حكم مرتب على الاستثناء مقرر له. {فَمَا يُكَذّبُكَ} أي فأي شيء يكذبك يا محمد دلالة أو نطقاً. {بَعْدُ بالدين} بالجزاء بعد ظهور هذه الدلائل وقيل «ما» بمعنى من. وقيل الخطاب للإنسان على الالتفات. والمعنى فما الذي يحملك على هذا الكذب. {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} تحقيق لما سبق. والمعنى أليس الذي فعل ذلك من الخلق والرد {بِأَحْكَمِ الحاكمين} صنعاً وتدبيراً ومن كان كذلك كان قادراً على الإِعادة والجزاء على ما مر مراراً. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة والتين أعطاه الله العافية واليقين ما دام حياً، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة ".
مكية. وآيها تسع عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} {اقرأ باسم رَبّكَ} أي اقرأ القرآن مفتتحاً باسمه سبحانه وتعالى. أو مستعيناً به. {الذى خَلَقَ} أي الذي له الخلق أو الذي خلق كل شيء، ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعاً وتدبيراً وأدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة فقال: {خَلَقَ الإنسان} أو الذي {خَلَقَ الإنسان} فأبهم أولاً ثم فسر تفخيماً لخلقه ودلالة على عجيب فطرته. {مِنْ عَلَقٍ} جمعه على {الإنسان} في معنى الجمع ولما كان أول الواجبات معرفة الله سبحانه وتعالى نزل أولاً ما يدل على وجوده وفرط قدرته وكمال حكمته. {اقرأ} تكرير للمبالغة، أو الأول مطلق والثاني للتبليغ أو في الصلاة ولعله لما قيل له: {اقرأ باسم رَبّكَ} فقال: «ما أنا بقارئ» فقيل له اقرأ: {وَرَبُّكَ الأكرم} الزائد في الكرم على كل كريم فإنه سبحانه وتعالى ينعم بلا عوض ويحلم من غير تخوف، بل هو الكريم وحده على الحقيقة. {الذى عَلَّمَ بالقلم} أي الخط بالقلم، وقد قرئ به لتقيد به العلوم ويعلم به البعيد. {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} بخلق القوى ونصب الدلائل وإنزال الآيات فيعلمك القراءة وإن لم تكن قارئاً، وقد عدد سبحانه وتعالى مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه، من أن نقله من أخس المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، وأشار أولاً إلى ما يدل على معرفته عقلاً ثم نبه على ما يدل عليها سمعاً. {كَلاَّ} ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه. {إِنَّ الإنسان ليطغى}. {أَن رَّءاهُ استغنى} أن رأى نفسه، واستغنى مفعوله الثاني لأنه بمعنى علم ولذلك جاز أن يكون فاعله ومفعوله ضميرين لواحد. {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} الخطاب للإنسان على الالتفات تهديداً وتحذيراً من عاقبة الطغيان، و{الرجعى} مصدر كالبشرى. {أَرَأَيْتَ الذى ينهى عَبْداً إِذَا صلى} نزلت في أبي جهل قال لو رأيت محمداً ساجداً لوطئت عنقه، فجاءه ثم نكص على عقبيه فقيل له مالك، فقال إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة. فنزلت ولفظ العبد وتنكيره للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال عبودية المنهي. {أَرَءَيْتَ إِن كَانَ على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} أرأيت تكرير للأول وكذا الذي في قوله: {أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} والشرطية مفعوله الثاني وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب الشرط الثاني الواقع موقع القسيم له. والمعنى أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه، أو آمراً {بالتقوى} فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده، أو إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الصواب كما تقول، {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} ويطلع على أحواله من هداه وضلاله. وقيل المعنى {أَرَأَيْتَ الذى ينهى عَبْداً} يصلي والمنهي على الهدى آمراً بالتقوى، والناهي مكذب متولٍ فما أعجب من ذا. وقيل الخطاب في الثانية مع الكافر فإنه سبحانه وتعالى كالحاكم الذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه قال يا كافر أخبرني إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الله سبحانه وتعالى أمراً بالتقوى أتنهاه، ولعله ذكر الأمر بالتقوى في التعجب والتوبيخ ولم يتعرض له في النهي لأن النهي كان عن الصلاة والأمر بالتقوى، فاقتصر على ذكر الصلاة لأنه دعوة بالفعل أو لأن نهي العبد إذا صلى يحتمل أن يكون لها ولغيرها، وعامة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة وغيره بالدعوة. {كَلاَّ} ردع للناهي. {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ} عما هو فيه. {لَنَسْفَعاً بالناصية} لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة، وقرئ «لنَسْفَعَنَّ» بنون مشددة و«لأسفعن»، وكتابته في المصحف بالألف على حكم الوقف والاكتفاء باللام عن الإِضافة للعلم بأن المراد ناصية المذكور. {نَاصِيَةٍ كاذبة خَاطِئَةٍ} بدل من الناصية وإنما جاز لوصفها، وقرئت بالرفع على هي ناصية والنصب على الذم ووصفها بالكذب والخطأ، وهما لصاحبها على الإسناد المجازي للمبالغة. {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي أهل ناديه ليعينوه وهو المجلس الذي ينتدي فيه القوم. روي أنا أبا جهل لعنه الله مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك، فاغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً فنزلت " {سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط واحدها زبنية كعفرية من الزبن وهو الدفع، أو زبني على النسب وأصلها زباني والتاء معوضة عن الياء. {كَلاَّ} ردع أيضاً للناهي. {لاَ تُطِعْهُ} أي أثبت أنت على طاعتك. {واسجد} داوم على سجودك. {واقترب} وتقرب إلى ربك وفي الحديث " أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد " عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله ".
مختلف فيها. وآيها خمس آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} الضمير للقرآن فخمه بإضماره من غير ذكر شهادة له بالنباهة المغنية عن التصريح كما عظمه بأن أسند نزله إليه، وعظم الوقت الذي أنزل فيه بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وإنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها، أو أنزله جملة من اللوح إلى السماء الدنيا على السفرة، ثم كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة. وقيل المعنى {أنزلناه} في فضلها وهي في أوتار العشر الأخير في رمضان، ولعلها السابعة منها. والداعي إلى إخفائها أن يُحيي من يريدها ليالي كثيرة، وتسميتها بذلك لشرفها أو لتقدير الأمور فيها لقوله سبحانه وتعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وذكر الألف إما للتكثير، " أو لما روي أنه عليه الصلاة والسلام ذكر إسرائيلياً يلبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة القدر هي خير من مدة ذلك الغازي " {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم} بيان لما له فُصِّلَتْ على ألف شهر وتنزلهم إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا أو تقربهم إلى المؤمنين. {مّن كُلّ أَمْرٍ} من أجل كل قدر في تلك السنة، وقرئ «من كل امرئ» أي من أجل كل إنسان. {سلام هِىَ} ما هي إلا سلامة أي لا يقدر الله فيها إلا السلامة، ويقضي في غيرها السلامة والبلاء، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون فيها على المؤمنين. {حتى مَطْلَعِ الفجر} أي وقت مطلعه أي طلوعه. وقرأ الكسائي بالكسر على أنه كالمرجع أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر ".
مختلف فيها. وآيها ثمان آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} اليهود والنصارى فإنهم كفروا بالإِلحاد في صفات الله سبحانه وتعالى و{مِنْ} للتبيين. {والمشركين} وعبدة الأصنام. {مُنفَكّينَ} عما كانوا عليه من دينهم، أو الوعد باتباع الحق إذ جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم. {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} الرسول عليه الصلاة والسلام أو القرآن، فإنه مبين للحق أو معجزة الرسول بأخلاقه والقرآن بإفحامه من تحدى به. {رَسُولٌ مِّنَ الله} بدل من {البينة} بنفسه أو بتقدير مضاف أو مبتدأ. {يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} صفته أو خبره، والرسول عليه الصلاة والسلام وإن كان أمياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل المراد جبريل عليه الصلاة والسلام وكون الصحف {مُّطَهَّرَةٍ} أن الباطل لا يأتي ما فيها، أو أنها لا يمسها إلا المطهرون. {فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق. {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} عما كانوا عليه بأن آمن بعضهم أو تردد في دينه، أو عن وعدهم بالإِصرار على الكفر. {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} فيكون كقوله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى. {وَمَا أُمِرُواْ} أي في كتبهم بما فيها. {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} لا يشركون به. {حُنَفَاء} مائلين عن العقائد الزائغة. {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكواة} ولكنهم حرفوا وعصوا. {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} دين الملة القيمة. {إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِى نَارِ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} أي يوم القيامة، أو في الحال لملابستهم ما يوجب ذلك، واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه فلعله يختلف لتفاوت كفرهما. {أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البرية} أي الخليقة. وقرأ نافع «البريئة» بالهمز على الأصل. {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} فيه مبالغات تقديم المدح، وذكر الجزاء المؤذن بأن ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به والحكم عليه بأن من، {عِندَ رَبّهِمْ}، وجمع {جنات} وتقييدها إضافة ووصفاً بما تزداد لها نعيماً، وتأكيد الخلود بالتأييد. {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئناف بما يكون لهم زيادة على جزائهم. {وَرَضُواْ عَنْهُ} لأنه بلغهم أقصى أمانيهم. {ذلك} أي المذكور من الجزاء والرضوان. {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} فإن الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة لم يكن الذين كفروا كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلاً ".
مختلف فيها. وآيها ثمان آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} اضطرابها المقدر لها عند النفخة الأولى، أو الثانية أو الممكن لها أو اللائق بها في الحكمة، وقرئ بالفتح وهو اسم الحركة وليس في الأبنية فعلال إلا في المضاعف. {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} ما في جوفها من الدفائن أو الأموات جمع ثقل وهو متاع البيت. {وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا} لما يبهرهم من الأمر الفظيع، وقيل المراد ب {الإنسان} الكافر فإن المؤمن يعلم ما لها. {يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ} تحدث الخلق بلسان الحال. {أَخْبَارَهَا} ما لأجله زلزالها وإخراجها. وقيل ينطقها الله سبحانه وتعالى فتخبر بما عمل عليها، و{يَوْمَئِذٍ} بدل من {إِذَا} وناصبهما {تُحَدّثُ}، أو أصل و{إِذَا} منتصب بمضمر. {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها بأن أحدث فيها ما دلت على الأخبار، أو أَنطقها بها ويجوز أن يكون بدلاً من إخبارها إذ يقال: حدثته كذا وبكذا، واللام بمعنى إلى أو على أصلها إذ لها في ذلك تشف من العصاة. {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس} من مخارجهم من القبور إلى الموقف. {أَشْتَاتاً} متفرقين بحسب مراتبهم. {لّيُرَوْاْ أعمالهم} جزاء أعمالهم، وقرئ بفتح الياء. {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} تفصيل {لّيُرَوْاْ} ولذلك قرئ «يُرَهُ» بالضم، وقرأ هشام بإسكان الهاء ولعل حسنة الكافر وسيئة المجتنب عن الكبائر تؤثران في نقص الثواب والعقاب. وقيل الآية مشروطة بعدم الإحباط والمغفرة، أو من الأولى مخصوصة بالسعداء والثانية بالأشقياء لقوله {أَشْتَاتاً}، وال {ذَرَّةٍ} النملة الصغيرة أو الهباء. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة إذا زلزلت الأرض أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله ".
مختلف فيها، وآيها إحدى عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} {والعاديات ضَبْحاً} أقسم سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح ضبحاً، وهو صوت أنفاسها عند العدو ونصبه بفعله المحذوف، أو ب {العاديات} فإنها تدل بالالتزام على الضابحات، أو ضبحاً حال بمعنى ضابحة. {فالموريات قَدْحاً} فالتي توري النار، والإِيراء إخراج النار يقال قدح الزند فأورى. {فالمغيرات} يغير أهلها على العدو. {صُبْحاً} أي في وقته. {فَأَثَرْنَ} فهيجن. {بِهِ} بذلك الوقت. {نَقْعاً} غباراً أو صياحاً. {فَوَسَطْنَ بِهِ} فتوسطن بذلك الوقت أو بالعدو، أو بالنقع أي ملتبسات به. {جَمْعاً} من جموع الأعداء، " روي: أنه عليه الصلاة والسلام بعث خيلاً فمضت أشهر لم يأته منهم خبر فنزلت ". ويحتمل أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كما لهن الموريات بأفكارهن أنوار المعارف، والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس، {فَأَثَرْنَ بِهِ} شوقاً {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} من مجموع العليين. {إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} لكفور من كَنَدِ النعمة كنوداً، أو لعاص بلغة كندة، أو لبخيل بلغة بني مالك وهو جواب القسم. {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ} وإن الإِنسان على كنوده {لَشَهِيدٌ} يشهد على نفسه لظهور أثره عليه، أو أن الله سبحانه وتعالى على كنوده لشهيد فيكون وعيداً. {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير} المال من قوله سبحانه وتعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} أي مالاً. {لَشَدِيدٌ} لبخيل أو لقوي مبالغ فيه. {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ} بعث. {مَا فِى القبور} من الموتى وقرئ «بحثر» و«بحت». {وَحُصّلَ} جمع محصلاً في الصحف أو ميز. {مَا فِى الصدور} من خير أو شر، وتخصيصه لأنه الأصل. {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ} وهو يوم القيامة. {لَّخَبِيرٌ} عالم بما أعلنوا وما أسروا فيجازيهم عليه، وإنما قال {مَا} ثم قال {بِهِمُ} لاختلاف شأنهم في الحالين، وقرئ {أن} و«خبير» بلا لام. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة والعاديات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً ".
مكية، وآيها ثمان آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} {القارعة مَا القارعة وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة} سبق بيانه في «الحاقة». {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} في كثرتهم وذلتهم وانتشارهم واضطرابهم، وانتصاب {يَوْمَ} بمضمر دلت عليه {القارعة}. {وَتَكُونُ الجبال كالعهن} كالصوف ذي الألوان. {المنفوش} المندوف لتفرق أجزائها وتطايرها في الجو. {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه} بأن ترجحت مقادير أنواع حسناته. {فَهُوَ فِى عِيشَةٍ} في عيش. {رَّاضِيَةٍ} ذات رضا أو مرضية. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه} بأن لم يكن له حسنة يعبأ بها، أو ترجحت سيئاته على حسناته. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} فمأواه النار المحرقة والهاوية من أسمائها ولذلك قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} ذات حمى. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة ".
مختلف فيها، وآيها ثمان آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} {ألهاكم} شغلكم وأصله الصرف إلى اللهو منقول من لها إذا غفل. {التكاثر} التباهي بالكثرة {حتى زُرْتُمُ المقابر} إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات، عبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر. روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالكثرة فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم، وإنما حذف المنهي عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة. وقيل معناه {ألهاكم التكاثر} بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا عما هو أهم لكم، وهو السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت. {كَلاَّ} ردع وتنبيه على أن العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همه ومعظم سعيه للدنيا فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة. {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} خطأ رأيكم إذا عاينتم ما وراءكم وهو إنذار ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم. {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تكرير للتأكيد وفي {ثُمَّ} دلالة على أن الثاني أبلغ من الأول، أو الأول عند الموت أو في القبر والثاني عند النشور. {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم اليقين أي كعلمكم ما تستيقنونه لشغلكم ذلك عن غيره، أو لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه فحذف الجواب للتفخيم ولا يجوز أن يكون قوله. {لَتَرَوُنَّ الجحيم} جواباً له لأنه محقق الوقوع بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم التاء. {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} تكرير للتأكيد، أو الأولى إذا رأيتهم من مكان بعيد والثانية إأذا وردوها، أو المراد بالأولى المعرفة وبالثانية الإبصار. {عَيْنَ اليقين} أي الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين. {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} الذي ألهاكم، والخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه و{النعيم} بما يشغله للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} {كُلُواْ مِنَ الطيبات} وقيل يعمان إذ كل يسأل عن شكره. وقيل الآية مخصوصة بالكفار. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ ألهاكم لم يحاسبه الله سبحانه وتعالى بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية».
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} {والعصر} أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها، أو بعصر النبوة أو بالدهر لاشتماله على الأعاجيب والتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران. {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} إن الناس لفي خسران في مساعيهم وصرف أعمارهم في مطالبهم، والتعريف للجنس والتنكير للتعظيم. {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية. {وَتَوَاصَوْاْ بالحق} الثابت الذي لا يصح إنكاره من اعتقاد أو عمل. {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} عن المعاصي أو على الحق، أو ما يبلو الله به عباده. وهذا من عطف الخاص على العام للمبالغة إلا أن يخص العمل بما يكون مقصوراً على كماله، ولعله سبحانه وتعالى إنما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود، وإشعاراً بأن ما عد إما عد يؤدي إلى خسر ونقص حظ، أو تكرماً فإن الإبهام في جانب الخسر كرم. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والعصر غفر الله له وكان ممن تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر».
مكية، وآيها تسع آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} الهمز الكسر كالهزم، واللمز الطعن كاللهز فشاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم، وبناء فعله يدل على الاعتياد فلا يقال ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود، وقرئ «همزة لمزة» بالسكون على بناء المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم. ونزولها في الأخنس بن شريق فإنه كان مغياباً، أو في الوليد بن المغيرة واغتيابه رسول الله صلى الله عليه وسلم. {الذى جَمَعَ مَالاً} بدل من كل أو ذم منصوب أو مرفوع، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتشديد للتكثير {وَعَدَّدَهُ} وجعله عدة للنوازل أو عدة مرة بعد أخرى، ويؤيده أنه قرئ «وَعَدَّدَهُ» على فك الإِدغام. {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} تركه خالداً في الدنيا فأحبه كما يحب الخلود، أو حب المال أغفله عن الموت أو طول أمله حتى حسب أنه مخلد فعمل عمل من لا يظن الموت، وفيه تعريض بأن المخلد هو السعي للآخرة. {كَلاَّ} ردع له عن حسبانه. {لَيُنبَذَنَّ} ليطرحن. {فِى الحطمة} في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يطرح فيها. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة} ما [هذه] النار التي لها هذه الخاصية. {نَارُ الله} تفسير لها. {الموقدة} التي أوقدها الله وما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه. {التى تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} تعلو أوساط القلوب وتشتمل عليها، وتخصيصها بالذكر لأن الفؤاد ألطف ما في البدن وأشده ألماً، أو لأنه محل العقائد الزائفة ومنشأ الأعمال القبيحة. {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} مطبقة من أوصدت الباب إذا أطبقته، قال: تحن إلى أجبال مكة ناقتي *** وَمَنْ دُونِهَا أبواب صنعاء مُوصَدَة وقرأ حفص وأبو عمرو وحمزة بالهمزة. {فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} أي موثقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص وقرأ الكوفيون غير حفص بضمتين، وقرئ «عُمْدٍ» بسكون الميم مع ضم العين. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه " رضوان الله عليهم أجمعين.
مكية، وهي خمس آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يشهد تلك الوقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها، وإنما قال {كَيْفَ} ولم يقل ما لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله تعالى وقدرته وعزة بيته وشرف رسوله عليه الصلاة والسلام فإنها من الإِرهاصات. إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قصتها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف الحاج إليها، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً فأغضبه ذلك، فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بجيشه ومعه فيل قوي اسمه محمود، وفيلة أخرى فلما تهيأ للدخول وعبى جيشه قدم الفيل، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا رجعوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول، فأرسل الله تعالى طيراً مع كل واحد في منقاره حجر وفي رجليه حجران، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فترميهم فيقع الحجر في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعاً. وقرئ {أَلَمْ تَرَ} جداً في إظهار أثر الجازم، وكيف نصب بفعل لأبتر لما فيه من معنى الاستفهام. {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ} في تعطيل الكعبة وتخريبها. {فِى تَضْلِيلٍ} في تضييع وإبطال بأن دمرهم وعظم شأنها. {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} جماعات جمع إبالة وهي الحزمة الكبيرة، شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها. وقيل لا واحد لها كعبابيد وشماطيط. {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ} وقرئ بالياء على تذكير الطير لأنه اسم جمع، أو إسناده إلى ضمير ربك. {مِّن سِجّيلٍ} من طين متحجر معرب سنككل وقيل من السجل وهو الدلو الكبير، أو الاسجال وهو الارسال، أو من السجل ومعناه من جملة العذاب المكتوب المدون. {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} كورق زرع وقع فيه، والآكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفراً منه، أو كتين أكلته الدواب وراثته. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ».
مكية، وآيها أربع آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} {لإيلاف قُرَيْشٍ} متعلق بقوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} والفاء لما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لأجل: {إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف} أي الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام فيمتارون ويتجرون، أو بمحذوف مثل أعجبوا أو بما قبله كالتضمين في الشعر أي {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} {لإيلاف قُرَيْشٍ}، ويؤيده أنهما في مصحف أُبيَّ سورة واحدة، وقرئ «ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء»، وقريش ولد النضر بن كنانة منقول من تصغير قرش، وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار، فشبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وصغر الاسم للتعظيم وإطلاق الإِيلاف، ثم إبدال المقيد عنه للتفخيم. وقرأ ابن عامر «لئلاف» بغير ياء بعد الهمزة. {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ} أي بالرحلتين والتنكير للتعظيم، وقيل المراد به شدة أكلوا فيها الجيف والعظام. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أصحاب الفيل أو التخطف في بلدهم ومسايرهم، أو الجذام فلا يصيبهم ببلدهم. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها ".
مختلف فيها، وآيها سبع آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} {أَرَأَيْتَ} استفهام معناه التعجب، وقرئ «أريت» بلا همز إلحاقاً بالمضارع، ولعل تصديرها بحرف الاستفهام سهل أمرها و«أرأيتك» بزيادة الكاف. {الذى يُكَذّبُ بالدين} بالجزاء أو الإِسلام والذي يحتمل الجنس والعهد ويؤيد الثاني قوله: {فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم} يدفعه دفعاً عنيفاً. وهو أبو جهل كان وصياً ليتيم فجاءه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه، أو أبو سفيان نحر جزوراً فسأله يتيم لحماً فقرعه بعصاه، أو الوليد بن المغيرة، أو منافق بخيل. وقرئ «يَدع» أي يترك. {وَلاَ يَحُضُّ} أهله وغيرهم. {على طَعَامِ المسكين} لعدم اعتقاده بالجزاء ولذلك رتب الجملة على {يُكَذّبُ} بالفاء. {فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} أي غافلون غير مبالين بها. {الذين هُمْ يُرَاءونَ} يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليهم. {وَيَمْنَعُونَ الماعون} الزكاة أو ما يتعاور في العادة والفاء جزائية. والمعنى إذا كان عدم المبالاة باليتيم من ضعف الدين والموجب للذم والتوبيخ فالسهو عن الصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر، ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإِسلام أحق بذلك ولذلك رتب عليها الويل، أو للسببية على معنى {فَوَيْلٌ} لهم، وإنما وضع المصلين موضع الضمير للدلالة على سوء معاملتهم مع الخالق والخلق. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة أرأيت غفر له أن كان للزكاة مؤدياً ".
مكية، وآيها ثلاث آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} وقرئ «أنطيناك». {الكوثر} الخير المفرط الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين. " وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهر في الجنة وعدنيه ربي فيه خير كثير أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأبرد من الثلج وألين من الزبد، حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة لا يظمأ من شرب منه " وقيل حوض فيها وقيل أولاده وأتباعه، أو علماء أمته والقرآن العظيم. {فَصَلّ لِرَبّكَ} فَدُمْ على الصلاة خالصاً لوجه الله تعالى خلاف الساهي عنها المرائي فيها شكراً لإِنعامه، فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر. {وانحر} البدن التي هي خيار أموال العرب وتصدق على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد والنحر بالتضحية. {إِنَّ شَانِئَكَ} إن من أبغضك لبغضه الله. {هُوَ الأبتر} الذي لا عقب له إذ لا يبقى له نسل ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر له في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر العظيم ".
مكية، وآيها ست آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون} يعني كفرة مخصوصين قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. «روي أن رهطاً من قريش قالوا يا محمد تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فنزلت». {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي فيما يستقبل فأن لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أن {مَا} لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال. {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أي فيما يستقبل لأنه في قران {لاَ أَعْبُدُ}. {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي في الحال أو فيما سلف. {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده، ويجوز أن يكونا تأكيدين على طريقة أبلغ وأما لم يقل ما عبدت ليطابق {مَّا عَبَدتُّمْ} لأنهم كانوا موسومين قبل المبعث بعبادة الأصنام، وهو لم يكن حينئذ موسوماً بعبادة الله، وإنما قال {مَا} دون من لأن المراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق أو للمطابقة. وقيل إنها مصدرية وقيل الأوليان بمعنى الذي والآخريان مصدريتان. {لَكُمْ دِينَكُمْ} الذي أنتم عليه لا تتركونه. {وَلِىَ دِينِ} ديني الذي أنا عليه لا أرفضه، فليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليكون منسوخاً بآية القتال، اللهم إلا إذا فسر بالمتاركة وتقرير كل من الفريقين الآخر على دينه، وقد فسر ال {دِينِ} بالحساب والجزاء والدعاء والعبادة. عَن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك».
مدنية، وآيها ثلاث آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله} إظهاره إياك على أعدائك. {والفتح} وفتح مكة، وقيل المراد جنس نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم، وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإِشعار بأن المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها فتقرب منها شيئاً فشيئاً، وقد قرب النصر من وقته فكن مترقباً لوروده مستعداً لشكره. {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله أفواجا} جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب، و{يَدْخُلُونَ} حال على أن {رَأَيْتُ} بمعنى أبصرت أو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت. {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال أحد حامداً له، أو فصل له حامداً على نعمه. «روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة بدأ بالمسجد فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات» أو فنزهه تعالى عما كانت الظلمة يقولون فيه حامداً له على أن صدق وعده، أو فأثن على الله تعالى بصفات الجلال حامداً له على صفات الإِكرام. {واستغفره} هضماً لنفسك واستقصاراً لعملك واستدراكاً لما فرط منك من الالتفات إلى غيره. وعنه عليه الصلاة والسلام «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» وقيل استغفره لأمتك، وتقديم التسبيح على الحمد ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق. كما قيل ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله. {إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} لمن استغفره مذ خلق المكلفين، والأكثر على أن السورة نزلت قبل فتح مكة، وأنه نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لما قرأها بكى العباس رضي الله عنه، فقال عليه الصلاة والسلام ما يبكيك، فقال: نعيت إليك نفسك، فقال «إنها لكما تقول» ولعل ذلك لدلالتها على تمام الدعوة وكمال أمر الدين فهي كقوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أو لأن الأمر باستغفار تنبيه على دنو الأجل، ولهذا سميت سورة التوديع. وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة إذا جاء أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة شرفها الله تعالى».
مكية، وآيها خمس آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} {تَبَّتْ} هلكت أو خسرت والتباب خسران يؤدي إلى الهلاك. {يَدَا أَبِى لَهَبٍ} نفسه كقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} وقيل إنما خصتا لأنه عليه الصلاة والسلام لما نزل عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} جمع أقاربه فأنذرهم فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا دعوتنا، وأخذ حجراً ليرميه به فنزلت. وقيل المراد بهما دنياه وأخراه، وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بكنيته ولأن اسمه عبد العزى فاستكره ذكره، ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله، أو ليجانس قوله: {ذَاتَ لَهَبٍ} وقرئ «أبو لهب» كما قيل علي بن أبو طالب. {وَتَبَّ} إخبار بعد دعاء والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه كقوله: جَزَانِي جَزَاهُ الله شَرَّ جَزائِه *** جَزاءَ الكِلاَبِ العَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَل ويدل عليه أنه قرئ «وقد تب» أو الأول إخبار عما كسبت يداه والثاني عن عمل نفسه. {مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ} نفي لإِغناء المال عنه حين نزل به التباب أو استفهام إنكار له ومحلها النصب. {وَمَا كَسَبَ} وكسبه أو مكسوبه بماله من النتائج والأرباح والوجاهة والإِتباع، أو عمله الذي ظن أنه ينفعه أو ولده عتبة، وقد افترسه أسد في طريق الشام وقد أحدق به العير ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر بأيام معدودة، وترك ثلاثاً حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه، فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه. {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} اشتعال يريد نار جهنم، وليس فيه ما يدل على أنه لا يؤمن لجواز أن يكون صليها للفسق، وقرئ {سيصلى} بالضم مخففاً و{سيصلى} مشدداً. {وامرأته} عطف على المستتر في {سيصلى} أو مبتدأ وهي أم جميل أخت أبي سفيان. {حَمَّالَةَ الحطب} يعني حطب جهنم فإنها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحمل زوجها على إيذائه، أو اليميمة فإنها كانت توقد نار الخصومة، أو حزمة الشوك أو الحسك، فإنها كانت تحملها فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ عاصم بالنصب على الشتم. {فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} أي مِمَّا مُسِّدَ أي فَتِلَ، ومنه رجل ممسود الخلق أي مجدوله، وهو ترشيح للمجاز أو تصوير لها بصورة الخطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تحقيراً لشأنها، أو بياناً لحالها في نار جهنم حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنم كالزقوم، والضريع وفي جيدها سلسلة من النار، والظرف في موضع الحال أو الخبر وحبل مرتفع به. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة ".
مختلف فيها، وآيها أربع آيات بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} الضمير للشأن كقولك: هو زيد منطلق وارتفاعه بالإِبتداء وخبره الجملة ولا حاجة إلى العائد لأنها هي هو، أو لما سُئِلَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أي الذي سألتموني عنه هو الله، إذ " روي أن قريشاً قالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه فنزلت " واحد بدل أو خبر ثان يدل على مجامع صفات الجلال كما دل الله على جميع صفات الكمال إذا الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد، وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية وقرئ «هو الله» بلا {قُلْ} مع الاتفاق على أنه لا بد منه في {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون}، ولا يجوز في «تبت»، ولعل ذاك لأن سورة «الكافرون» مشاقة الرسول أو موادعته لهم و«تبت» معاتبة عمه فلا يناسب أن تكون منه، وأما هذا فتوحيد يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى. {الله الصمد} السيد المصمود إليه في الحوائج من صمد إليه إذا قصد، وهو الموصوف به على الإِطلاق فإنه يستغني عن غيره مطلقاً، وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته، وتعريفه لعلمهم بصمديته بخلاف أحديته وتكرير لفظة {الله} للإشعار بأن من لم يتصف به لم يستحق الألوهية، وإخلاء الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى أو الدليل عليها. {لَمْ يَلِدْ} لأنه لم يجانس ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه، ولعل الاقتصاد على لفظ الماضي لوروده رداً على من قال الملائكة بنات الله، أو المسيح ابن الله أو ليطابق قوله: {وَلَمْ يُولَدْ} وذلك لأنه لا يفتقر إلى شيء ولا يسبقه عدم. {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي ولم يكن أحد يكافئه أو يماثله من صاحبة أو غيرها، وكان أصله أن يؤخر الظرف لأنه صلة {كُفُواً} لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدم تقديماً للأهم، ويجوز أن يكون حالاً من المستكن في {كُفُواً} أو خبراً، ويكون {كُفُواً} حالاً من {أَحَدٌ}، ولعل ربط الجمل الثلاث بالعطف لأن المراد منها نفي أقسام المكافأة فهي كجملة واحدة منبهة عليها بالجمل، وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية «كُفْواً» بالتخفيف، وحفص {كُفُواً} بالحركة وقلب الهمزة واواً، ولاشتمال هذه السور مع قصرها على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها، " جاء في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن " فإن مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص ومن عدلها بكله اعتبر المقصود بالذات من ذلك. وعنه صلى الله عليه وسلم، " أنه سمع رجلاً يقرؤها فقال: «وجبت» " قيل: يا رسول الله وما وجبت قال: " وجبت له الجنة ".
مختلف فيها، وآيها خمس آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ الفَلَقِ} ما يفلق عنه أي يفرق كالفرق فعل بمعنى مفعول، وهو يعم جميع الممكنات، فإنه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإِيجاد عنها، سيما ما يخرج من أصل كالعيون والأمطار والنبات والأولاد، ويختص عرفاً بالصبح ولذلك فسر به. وتخصيصه لما فيه من تغير الحال وتبدل وحشة الليل بسرور النور ومحاكاة فاتحة يوم القيامة، والإِشعار بأن من قدر أن يزيل به ظلمة الليل عن هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه، ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى لأن الإِعاذة من المضار قريبة. {مِن شَرّ مَا خَلَقَ} خص عالم الخلق بالإستعاذة عنه لانحصار الشرفية، فإن عالم الأمر خير كله، وشره اختياري لازم ومتعد كالكفر والظلم، وطبيعي كإحراق النار وإهلاك السموم. {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ} ليل عظيم ظلامه من قوله: {إلى غسق الليل} وأصله الامتلاء يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعاً. وقيل السيلان و{غَسَقِ اليل} انصباب ظلامه وغسق العين سيلان دمعه. {إِذَا وَقَبَ} دخل ظلامه في كل شيء، وتخصيصه لأن المضار فيه تكثر ويعسر الدفع، ولذلك قيل الليل أخفى للويل. وقيل المراد به القمر فإنه يكسف فيغسق ووقوبه دخوله في الكسوف. {وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد} ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها، والنفث النفخ مع ريق وتخصيصه. «لما روي أن يهودياً سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر، فمرض النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت المعوذتان» وأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بموضع السحر فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه فجاء به فقرأهما عليه، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور، لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر. وقيل المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وإفرادها بالتعريف لأن كل نفاثة شريرة بخلاف كل غاسق وحاسد. {وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه، فإنه لا يعود ضرر منه قبل ذلك إلى المحسود بل يخص به لاغتمامه بسروره، وتخصيصه لأنه العمدة في إضرار الإِنسان بل الحيوان غيره، ويجوز أن يراد بالغاسق ما يخلو عن النور وما يضاهيه كالقوى وب {النفاثات} النباتات، فإن قواها النباتية من حيث أنها تزيد في طولها وعرضها وعمقها كانت تنفث في العقد الثلاثة، وبالحاسد الحيوان فإنه إنما يقصد غيره غالباً طمعاً فيما عنده، ولعل إفرادها من عالم الخلق لأنها الأسباب القريبة للمضرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم «لقد أنزلت عليَّ سورتان ما أنزل مثلهما وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوذتين».
مختلف فيها، وآيها ست آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} {قُلْ أَعُوذُ} وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتهما إلى اللام. {بِرَبّ الناس} لما كانت الاستعاذة في السورة المتقدمة من المضار البدنية وهي تعم الإِنسان وغيره والاستعاذة في هذه السورة من الأضرار التي تعرض للنفوس البشرية وتخصها، عمم الإِضافة ثمَّ وخصصها بالناس ها هنا فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك أمورهم ويستحق عبادتهم. {مَلِكِ الناس إله الناس} عطفاً بيان له فإن الرب قد لا يكون ملكاً والملك قد لا يكون إلهاً، وفي هذا النظم دلالة على أنه حقيق بالإعاذة قادراً عليها غير ممنوع عنها وإشعار على مراتب الناظر في المعارف فإنه يعلم أولاً بما عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له رباً، ثم يتغلل في النظر حتى يتحقق أنه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه، فهو الملك الحق ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير، ويتدرج وجوه الاستعاذة كما يتدرج في الاستعاذة المعتادة، تنزيلاً لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات إشعاراً بعظم الآفة المستعاذة منها، وتكرير {الناس} لما في الإِظهار من مزيد البيان، والإِشعار بشرف الإِنسان. {مِن شَرّ الوسواس} أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر فبالكسر كالزلزال، والمراد به الموسوس وسمي بفعله مبالغة. {الخناس} الذي عادته أن يخنس أي يتأخر إذا ذكر الإِنسان ربه. {الذى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ الناس} إذا غفلوا عن ذكر ربهم، وذلك كالقوة الوهمية، فإنها تساعد العقل في المقدمات، فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه، ومحل {الذى} الجر على الصفة أو النصب أو الرفع على الذم. {مِنَ الجنة والناس} بيان ل {الوسواس}، أو الذي أو متعلق ب {يُوَسْوِسُ} أي يوسوس في صدورهم من جهة الجِنَّةَ والناس. وقيل بيان ل {الناس} على أن المراد به ما يعم الثقلين، وفيه تعسف إلا أن يراد به الناسي كقوله تعالى: {يَوْمَ يدعُ الداع} فإن نسيان حق الله تعالى يعم الثقلين. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تبارك وتعالى».
|